زكريا أيوب دولا
زكريا أيوب دولا

كانت شريعة الإسلام وما زالت هي الشريعة الكاملة المتوازنة في الجوانب والمجالات كافة، والصالحة لكل زمان ومكان، وقد نظَّمت هذه الشريعة العلاقات الإنسانية كافة، ورتبت الشؤون في كافة المجالات والجوانب وفق قواعد وأُسس لتحقيق الأمن الكريم، والعيش الهنيء، والسعادة للبشرية جمعاء، بضوابط محكمة ومتوافقة مع فطرة الإنسان وعقله، وسائرة وفق منهج عادل في التعايش والسلام والتعاون والصلاح والإصلاح.
ومن الأمور الهامة التي أولاها الشرع الحكيم عنايةً فائقةً: التعايش الحضاري مع كافة المكونات، ومختلف المجتمعات، وضبط وتنظيم العلاقات فيها ومعها، ولا عجب؛ فإن الإسلام لا يُكره الناس حتى يكونوا مسلمين، ولا يمنع من التعايش والتقارب وتبادل المنافع والمصالح مع مخالفيه، وليس من لوازم الإيمان؛ القطيعة مع الناس، ورفض العيش والمصالح المشتركة معهم.
إن التعايش قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الاختلاف، واحترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، والقبول بالخصوصيات الحضارية للأمم والشعوب المختلفة من أجل تأسيس تعايش حضاري قائم على الاحترام المتبادل، وهو بهذا يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف.
ومن أهم مرتكزات التعايش الحضاري في الشريعة:
1/ وحدة الأديان السماوية في أصولها: 
يرجع الإسلام الأديان السماوية كلها إلى أصل واحد، وهو الوحي الإلهي، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد، ولذلك يدعو الإسلام إلى الإيمان بجميع الأنبياء السابقين، والكتب السماوية، قال تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة: 136).
2/ الإقرار بالاختلاف والتعددية: من سنن الله أن الناس مختلفون في أديانهم وأفكارهم وتصوراتهم ومذاهبهم الفكرية وتوجهاتهم المتنوعة في مختلف مناحي الحياة، قال الله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» (البقرة: 213).
3/ احترام المواطنة: ضمن الإسلام حقوق المواطنين، وتمتع الجميع بسائر الحقوق مثل حق الحماية، من حماية النفس، وحماية العرض، والسكن، وحق التعليم، وحق العمل والكسب، وتعد وثيقة المدينة أول أساس ينظم للمواطنة، ويحدد واجبات سكان المدينة المنورة بغض النظر عن دينهم، فالإنسان محترمٌ لذاته بغض النظر عن أي اعتبارٍ آخر.
4/ الحرية المسؤولة: قرر الإسلام حرية الإنسان، ووضع له الضمانات الكفيلة، كون الحرية هي أكبر مظاهر الكرامة الإنسانية، وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره.
5/ حفظ كرامة الإنسان: كرم الله تعالى الإنسان مع قطع النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه، ورفع منزلته على كثير من خلقه، قال الله تعالى: «ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (الإسراء: 70).
6/ العدل: العدل هو ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق، وهو إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدلٍ قامت، وإن لم يكن صاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة. (مجموع الفتاوى 28/ 146).
7/ البر والمعاملة الحسنة: أمر الله المسلمين ببر المخالفين ما لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتل، قال تعالى: «لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة: 8)، ومما يشمله البر: التعاون؛ إذ من أسس التعايش الحضاري التعاون الشامل على المشتركات الإنسانية التي من شأنها توفير العيش الكريم لمختلف الشعوب.
ومن أعظم الأسس التي بنت عليها الشريعة الإسلامية التعايش الحضاري مع غير المسلمين؛ أساس الرحمة الشاملة للبشر على اختلاف مللهم ونحلهم، بل والشاملة حتى للبهائم والجمادات، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107).
ويمكن إجمال أبرز السبل المعزِّزَة، والأسس المجَسِّدة لترسيخ التعايش الحضاري، وتعزيزه وتكريسه على أرض الواقع بما يلي:
-  ضرورة وجود القناعة التامة والإرادة الحرة، والرغبة المشتركة بين أهل الأديان السماوية للتعايش؛ بمعنى أن تكون هذه الرغبة والإرادة والقناعة نابعة من الذات من غير أي تأثير خارجي عن الذات، كالضغوط المفروضة عليهم، مهما كان شأنها ومهما كانت أسبابها.
-  التفاهم والاتفاق المشترك على أهداف التعايش وغاياته التي تخدم الإنسانية كلها، وتحقق مصالحها العليا وعلى رأسها السلم العالمي والأمن والأمان مما يحول بينها وبين نشوء النزاعات والحروب المختلفة.
-  الاعتراف بأن الحوار والتفاهم بين الأديان، والوعي بالاختلافات والقواسم المشتركة بين الشعوب والحضارات، يسهم في الحلّ الحضاري للنزاعات، ويقلّل من العنف ويمكّن الناس من تقبّل التنوع الإثني أو الثقافي أو الديني، كما أن الحوار بين الأديان يجب أن يركز على ما تشترك فيه الأديان بدلاً ممّا يفرق بينها، بالإضافة لتمكين العلاقات بين الثقافات والحضارات.
-  من أهم الحصون لمبدأ التعايش الحضاري: النقد الذاتي؛ حيث إن حصانة النقد الذاتي التي تزدهر في مجتمعات التعايش الحقيقي تكون لها بمثابة المسار الذي يصفي صحة المجتمع والوطن باستمرار، وبالتالي يصبح نمط التعايش في أي مجتمع هو حصانة مستمرة من الارتداد والنكوص إلى حضيض الأمراض الاجتماعية المزمنة من قبلية ومناطقية وطائفية.
-  المعرفة شرط ضروري من شروط مجتمعات التعايش الحضاري؛ لأنه من خلال المعرفة والإدراك تتفهم المجتمعات المتحضرة اختلافاتها فيما بينها من ناحية، واختلافات المجتمعات المغايرة لها، وما يتصل بذلك من عادات وتقاليد وبيئات حضارية من ناحية أخرى، ولهذا فإن مجتمعات المعرفة تجعل اختلافاتها فيما بينها، واختلافاتها مع غيرها، مادة غنية للعيش المشترك، لا مادة للصراع.
-  ضرورة مراعاة النظام، ويعنى به: القواعد والقوانين التي تحكم طبيعة التعايش الحضاري، بحيث يصبح التعايش بذاته، العلامة الفارقة في أي مجتمع عبر تطبيقات النظام الذي يؤطر ويحرس نمط التعايش وازدهاره في ذلك المجتمع.
-  أهمية تضمين مناهج التعليم مفاهيم تؤسس للتنوع -الفكري والاجتماعي-، بما يضمن تكوين جيل متعايش، ومتسامح.
-  ضرورة اضطلاع الإعلام بدوره في تحقيق، وتعزيز تعايش أفراد المجتمع بعضهم مع بعض، وذلك من خلال ما يُقدَّم عبر القنوات الإعلامية المختلفة، والتصدي لوسائل الإعلام المثيرة لمفاهيم الازدراء والكراهية والتحريض وتأجيج الفتن بين المسلمين وغيرهم.
-  ضرورة توعية المجتمع، وتثقيفه بأهمية التعايش الحضاري، وذلك من خلال تكاتف وتضافر جميع مؤسسات المجتمع، والاهتمام بدور الأسرة، وأماكن العبادة، والتي يقع على عاتقها دورٌ مهمٌ في تعزيز التعايش، إذ التعايش لا يمكن أن يتحقق بعيدا عن منظومة مؤسساتية متكاملة قادرة على إدارته إيجابًا.
-  تطوير الخطاب الحضاري بما يراعي فوارق الزمان والمكان والحدث، ويتلاءم مع ثوابت الإسلام، ويعالج مشكلات المجتمعات المعاصرة، بعيدا عن الانفعال وردود الفعل الآنية التي تغفل عن الآثار البعيدة.
-  استلهام الدروس من الماضي، وإعادة الأنظار والتفكير في التجارب السابقة في صناعة مستقبل واعد بترسيخ مبادئ التسامح والتعايش الحضاري بين أتباع الثقافات والحضارات، واستثمار النجاحات في صياغة برامج تطور آليات التعايش وتتجاوز معوقاته.