يحتفل العالم في 21 سبتمبر من كل سنة باليوم الدولي للسلام الذي أطلقته الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عام 1981، وأعلنت عام 2001 بالإجماع يوماً للحد من العنف ووقف إطلاق النار. ومنذ ذلك التاريخ دأبت الأمم المتحدة على دعوة الأمم والشعوب إلى الالتزام بوقف القتال في هذا اليوم والاحتفاء به من خلال الأنشطة المعلوماتية وتوعية الجمهور حول قضايا السلام، إيمانا منها بأن ثقافة السلام هي ثقافة الحوار، خاصة وأن خطة الأمم المتحدة حول التنمية المستدامة في أفق عام 2030 أكدت أنه «لا سبيل إلى تحقيق التنمية المستدامة دون سلام، ولا إلى إرساء السلام دون تنمية مستدامة». كما دعت الأمم المتحدة إلى «اعتماد نهج جديد شامل لمعالجة الأسباب الجذرية للمشكلات، ولتوطيد سيادة القانون، وتعزيز التنمية المستدامة، بالارتكاز على الحوار والاحترام».
ومن هذا المنطلق حرصت المنظمات الدولية والإقليمية المعنية في خطط عملها على المساهمة في بناء السلام من خلال أنشطة متعددة ومتنوعة تهدف إلى تطوير برامج التربية على قيم السلام والتسامح والعيش المشترك، وترسيخ الحوار بين الثقافات، واحترام حقوق الإنسان، والاعتراف بالتنوع الثقافي للشعوب.
بداية نشير إلى أن لفظتي «السلام» و«السلم» قد وردتا في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لا يسمح المقام بالتفصيل فيها، ولكن تجدر الإشارة في عجالة إلى أن كلمة «السلام» هي من أسماء اللـه الحسنى، ثم إن لفظة (الإسلام) مشتقة من كلمتي السلم والسلام، كما أن تحية المسلمين في الدنيا هي (سلام عليكم)، وتحية بعضهم لبعض في الجنة هي سلام مصداقا لقوله تعالى «لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما».
ومن أسماء الجنة (دار السلام) كما في الآية المباركة: «لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ» فإنها مستقر الصالحين.
يتحقق السلم والسلام من المنظور الإسلامي عن طريق الحوار الذي يعد قيمة من قيم الحضارة الإسلامية التي تستند إلى مبادئ الدين الإسلامي الحنيف وتعاليمه السمحاء. كما يعد الجنوح إلى السلم والسلام موقفا فكريا وحالة وجدانية، وتعبيرا عن أبرز سمات الدين الإسلامي، وهي سمة التسامح والتعايش مع الآخر، لا بمعنى التخاذل والضعف، ولكن بمعنى الترفع عن الصغائر والتسامي على الضغائن والتجافي عن الهوى والباطل.
إن تعدد البشر واختلافهم في الآراء والمعتقدات المعرفية جعل من الحوار وسيلة من وسائل تحقيق السلام من خلال تقوية التقارب وتعزيز التعارف وتبادل المعارف، لأنه كلما اتسعت مساحة المعرفة المتبادلة بين الشعوب والأمم، على مختلف المستويات، ضاقت مساحة الخلاف وانزوى الاختلاف والعنف وتراجع وفقد القدرة على التأثير السلبي الذي يلحق أفدح الأضرار بالمجتمعات الإنسانية.
ولذلك ينطلق المنظور الإسلامي للحوار والسلام من غايات سامية تدعو إلى العدل والإنصاف والقبول بالاختلاف مع الآخر والتسامح معه انسجاما مع ضرورات الوئام البشري الإنساني التي تتطلبها الحياة واحتياجاتها الاجتماعية وتفرضها طبيعة العمران البشري والأخوة الإنسانية القائمة على المحبة والاحترام المتبادل.
ومن العوامل المساعدة على انتشار السلم، التربية على الحوار والاعتراف بوجود الآخر المختلف وباحترام حقه ليس فقط في تبني رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف، وإنما احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد.
وقد يكون الآخر فردا أو جماعة، وقد يكون كتابيا أو كافرا، وفي كل الحالات فإن العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه).
تقوم العلاقات الإنسانية حسب المنظور الإسلامي على أساس التعارف والتعاون على البر والتقوى ونبذ العنف والجنوح للسلم، انطلاقا من وحدة الجنس البشري ووحدة الأصل المنبثق عن المشيئة الإلهية. فالتعاون في المصطلح القرآني يتعدى المعنى اللغوي المباشر إلى معان أعمق مفهوما وأوسع دلالة في قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» [سورة الحجرات، الآية 13].
كما أن التعاون نتيجة حتمية للتعارف ما دام يسعى إلى البر والتقوى لما فيهما من خير ومنفعة للإنسانية في كل الأزمنة والأمكنة، تتحقق بهما سعادة المجتمعات والأفراد بفضل انتشار الطمأنينة والسلم والسلام، على عكس الإثم والعدوان اللذين يمثلان وجهين بارزين للصدام والصراع ومصدرين للحروب والنزاعات المدمرة للحضارة الإنسانية.
إن رسالة الإسلام رسالةٌ عالمية، تدعو للسلم والتعايُش والتعاون الإنساني مع الجميع، وأنها تحملُ في طياتها معانيَ التسامح والوسطية والاعتدال. لذلك لا يؤمن الإسلام بالصراع الحضاري أو الصدام الحضاري بل يقول بالتدافع الحضاري، ويدعو إلى التعايش والسلم بين الشعوب والأمم. والمقصود بمفهوم التدافع الحضاري في الإسلام أن الحياة البشرية تشهد تصادما بين الخير والشر، غير أن التدافع في إطار سلمي يبطل ذلك الصراع بانتصار الخير على الشر، لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون الغلبة للحق والعدل باعتبارهما قاعدتي الحضارة التي يسعد الإنسان في كنفها، ويبدع ويعمر الأرض، ويصلح ولا يفسد.
إن اهتمام العالم الإسلامي حكومات ومؤسسات رسمية ومنظمات شعبية ومثقفين ومفكرين وأكاديميين بموضوع السلام نابع من أن الإسلام دين سلم وتعايش وتسامح ووئام، يدعو إلى الحوار سبيلا للمعرفة والتعاون. ولذلك كان العالم الإسلامي سباقا إلى المبادرة بالدعوة إلى تعزيز السلم العالمي من خلال تفعيل الحوار بين الحضارات، في مسعى حميد منه انطلق من قيم الحضارة الإسلامية، لإشاعة ثقافة التعايش والسلام والتعاون على جميع المستويات، من أجل الوصول إلى توافق دولي يمكن من التغلب على المشكلات الناتجة عن سوء الفهم وعدم الثقة التي تسود بعض المجتمعات الإنسانية، ويسهم في استتباب الأمن والسلام، والحد من الحروب وقتل الإنسان لأخيه الإنسان، وتخريب العمران.
لذلك تزايد اهتمام المنظمات الحكومية وغير الحكومية في العالم الإسلامي بتفعيل دور التربية في ترسيخ السلام وقيم الوسطية والاعتدال لدى المتعلمين في المدارس، والعناية بالتأصيل الشرعي للتربية على السلام وبيان أسانيدها الشرعية والتصدي العلمي لكل مظاهر الغلو والتسيب، وتعزيز دور المؤسسات التعليمية والإعلامية في التربية على السلام والتعايش. وأصبحت الحاجة ماسة وضرورية لوضع تصور مشترك لتعزيز قيم السلام والوسطية والاعتدال وقبول الآخر في المناهج والمقررات الدراسية، وتطوير طرائق تكوين القائمين على تدريسها ووسائلها التعليمية وتعد رابطة العالم الإسلامي من أكثر المنظمات الإسلامية الشعبية اهتماما بتعزيز الحوار والتعايش والدعوة إلى السلام والسلم، انطلاقا من أهدافها المركزية المنصوص عليها في ميثاقها حيث الدعوة إلى «العناية بالتواصل الحضاري ونشر ثقافة الحوار»، ومن «وثيقة مكة المكرمة» التي كانت وثيقة دستورية تحتذى في إرساء قيم التعايش، وتحقيق السلم بين مكونات المجتمع الإنساني. كما أن هذه الوثيقة أكدت في مبادئها الأساسية على أن «الاختلاف بين الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطبائعهم وطرائق تفكيرهم قدر إلهي قضت به حكمة الله البالغة، والإقرار بهذه السنة الكونية والتعامل معها بمنطق العقل والحكمة بما يوصل إلى الوئام والسلام الإنساني خير من مكابرتها ومصادمتها».
لقد حرصت الرابطة من خلال أنشطتها الأكاديمية ومبادراتها الميدانية الخيرية والإغاثية على التعريف بالإسلام وبيان حقائقه وقيمه السمحة، ودفع عوامل النزاع والشقاق، وتعزيز اللحمة بين الشعوب والأمم، والعناية بتعزيز الحوار بين أتباع الأديان، وتلك الجهود تسهم دون شك في تعزيز السلم العالمي. وفي هذا الإطار عقدت الرابطة مؤتمرات عديدة من أبرزها (مؤتمر باريس للتضامن والسلام) الذي شارك فيه ممثلو 40 دولة، وممثلو أتباع الأديان الكتابية، وشهد توقيع اتفاقية باريس التاريخية للعائلة الإبراهيمية. وهي اتفاقية تدعو إلى تعزيز جهود السلام والوئام، ومواجهة خطاب التطرف والكراهية والعنصرية، والتصدي لأساليب التحريض على السلم الوطني والمجتمعي. كما تضمنت الاتفاقية بنودا للسلام وخير الإنسانية وهدفت إلى إرساء دعائم عالم يسوده العدل والإخاء وتعزيز القيم المشتركة، وتوطيد العلاقات البينية والرفع من مستوى التفاهم المتبادل. ثم (المؤتمر الدولي لمبادرات تحصين الشباب ضد أفكار التطرف والعنف وآليات تفعيلها) الذي عقدته الرابطة عام 2019 في مقر الأمم المتحدة بجنيف وصدر عنه (إعلان جنيف) الذي تضمن عددا من التوصيات ذات الصلة بالسلام ومنها «ترسيخ القناعة بأن الصدام الديني والإثني والفكري والحضاري يمثل مخاطرة كبيرة تطال الأمن الوطني والسِّلْم العالمي، والوئام بين الأمم والشعوب بشكل عام، والمجتمعات الوطنية بشكل خاص، و«التأكيد على أهمية الاحترام المتبادل بين كافة التنوع البشري باعتباره أرضية مهمة لسلام ووئام الأمم والمجتمعات»، و«إنشاء مركز للتواصل الحضاري في جنيف ليكون منصة عالمية للحوار وتعزيز الصداقة والتعاون بين الأمم والشعوب وردم سلبيات الفجوات الدينية والثقافية والإثنية من خلال قاعدة المشتركات الدينية بخاصة والإنسانية بعامة التي تكفل لعالمنا العيش بسلام ووئام»، و«حث القادة الدينيين على تنظيم فعاليات شبابية للحوار والعمل على المشتركات الدينية والإنسانية لدعم جهود السلام العالمي والوئام الديني والإثني وتعزيز التحالف الحضاري».
وقام معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، الأمين العام للرابطة بجهود متواصلة من أجل نشر الخير والسلام والوئام وتعزيز الحوار مع أتباع الأديان، وذلك من خلال زياراته العديدة عبر أقطار العالم للتعريف بالقيم الإسلامية الصحيحة والنبيلة في بعدها الإنساني والحضاري، وفي تطابقها التام مع القيم الإنسانية المشتركة. كما ظل يدعو في كل المحافل الدولية العلمية واللقاءات الصحافية إلى تفعيل التواصل الإنساني من أجل التسامح والتعايش والسلام، وتعزيز مفهوم الأسرة الإنسانية الواحدة التي تقوم على المحبة والتعاون في بناء المجتمع الحضاري.
وفي مناسبات كثيرة أكد معالي الأمين العام للرابطة على أن الحوار الفعال هو الأساس القوي للسلام وللتفاعل بين القيم الإنسانية المشتركة وللتعايش بين أتباع الأديان، والخروج من دائرة الانغلاق الفكري والاحتقان الثقافي والصدام الحضاري، مبرزاً أنه منهج العقلاء وسبيل الحكماء، وبفضله يتم تعزيز التعاون الدولي والانخراط الفعلي في الجهود الدولية الهادفة إلى نشر ثقافة العدل والسلام، وترسيخ قيم التعايش والتسامح والحد من سوء الفهم والتفاهم من خلال التركيز على القواسم والمشتركات الفكرية والثقافية والدينية.