مع ارتفاع عدد المسلمين في العالم (أكثر من 1,6 مليار إنسان)، ومع اتساع رقعة انتشارهم شرقاً وغرباً وسط مجتمعات دينية مختلفة، ترتفع علامة استفهام كبيرة حول من يتحدث باسم الإسلام؟
ضخّمت من علامة الاستفهام هذه، ظاهرة التطرف التي توسلت الإرهاب لغةً وممارسة. وكان الردّ عليها أن هذه الظاهرة لا تمثل الإسلام، بل هي تستغلّه وتسيء إليه وتشوّه صورته وسمعته.
أعاد هذا الردّ طرح السؤال الأساس حول من هي الجهة التي تتحدث باسم الإسلام من دون أن تستغلّه وتسيء إليه ومن دون أن تشوّه صورته وسمعته؟
جاء الجواب من مكة المكرمة، ومن جوار الكعبة المشرفة التي تتوجّه إليها أفئدة المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها.
هنا اجتمع أكثر من 1200 مرجعية دينية من كل المذاهب الإسلامية، ومن كل الدول الإسلامية، ومن القارات الخمس، حيث يتواجد مسلمون كأقليات في أوطانهم الجديدة. كان الاجتماع بمبادرة من الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى.
في هذا الاجتماع الجامع، أُقرّت وثيقة اجتهادية إسلامية أجابت على علامات الاستفهام الكبيرة حول علاقة المسلمين بأنفسهم، وحول علاقاتهم بأهل الأديان والعقائد والثقافات الأخرى. وحملت الوثيقة اسم «وثيقة مكة»، مما أعطاها بُعْداً شرعياً إسلامياً: علماء من كل المذاهب ومن كل الأقطار يعلنون من جوار الكعبة المشرّفة موقفاً إسلامياً موحّداً من قضايا العصر.
تدور قضايا العصر التي حددت الوثيقة الجامعة الموقف الإسلامي الموحد منها حول:
أ - الإنسان الذي كرّمه الله، واحترام هذا الإنسان لذاته الإنسانية.
ب- الشعوب التي شاء الله أن تكون مختلفة لحكمة منه، والاستجابة إلى دعوة الله لها إلى التعارف. والتعارف هنا يعني التعرّف على الاختلافات من موقع الاحترام لأصحابها. فالله حصر بجلاله الحق الحصري في الحكم على ما في ضمائر الناس ومحاسبتهم يوم القيامة. وهذا يعني أنه لا يحق لأي إنسان أن يعطي نفسه سلطة الحكم على ما في ضمير الإنسان الآخر، أو العمل على إلغائها ترجمة لكراهية أصحابها.
ج- إن الإنسانية جميعها عائلة واحدة، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعاً من نفس واحدة، وهذا يعني التعامل مع الشعوب والجماعات المختلفة عنصرياً وثقافياً ودينياً ومذهبياً، إلخ.. على أنهم جميعاً أسرة واحدة.
د- إن الإيمان بالإسلام يعني الإيمان برسالات الله جميعاً، وبرسله وكتبه جميعاً. وهذه الشمولية الإيمانية التي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإسلام تنفي الكراهية الإلغائية للمؤمن الآخر المختلف، وتعزّز مشاعر الأخوّة والمحبة بين الناس المختلفين.
هـ- إن اللاإكراهية في الدين لا تعني فقط عدم إكراه الآخر على الإيمان، بل تعني أيضاً أنه لا يكون إيماناً بالإكراه. فاللا هنا ليست ناهية -عن الإكراه- فقط، ولكنها نافية للإيمان بالإكراه أيضاً.
لقد تحدث الإسلام في القرآن الكريم عن «بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه»، وأشار الإسلام في القرآن الكريم أيضاً إلى أن ثمة رسلاً وأنبياء لم ترد قصصهم في القرآن الكريم، لأن رحمة الله التي وسعت كل شيء لا تستثني أي قوم في أي منطقة من مناطق العالم من الدعوة إلى الإيمان بالله.
لقد تناولت وثيقة مكة العديد من القضايا المعاصرة في المواطنة والاجتماع والثقافة والأخلاق والحريات، وأرست أسساً شرعية للانفتاح والتعاون على قواعد الاحترام والمحبة والصالح العام.
من هنا فإذا جمعنا، إلى قدسية المكان الذي صدرت منه الوثيقة، شمولية المذاهب الإسلامية وشمولية الدول الإسلامية، وشمولية العلماء المسلمين من غير الدول الإسلامية؛ فإن الوثيقة تصبح النصّ المرجعي الدين، ولذلك تبنّت منظمة التعاون الإسلامي التي تمثل الدول الإسلامية هذه الوثيقة لتكون مرجعاً لها جميعاً.
لم يكتفِ أمين عام رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى بتحقيق هذا الإنجاز الفقهي - العملي - الإسلامي الجامع، ولكنه حمل هذا الإنجاز إلى العالم. حمله إلى الفاتيكان في روما، وإلى كانتربري في لندن، وإلى البطريركية الأرثوذكسية الروسية في موسكو، كما حمله إلى مجلس الكنائس العالمي في جنيف، وإلى مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيروت، وحمله أيضاً إلى المرجعيات الدينية اليهودية في كل من واشنطن ونيويورك.
بدّدت هذه المبادرة التي انطلقت من مكة المكرمة ومن حرمها المقدّس إلى العالم شرقاً وغرباً، التساؤلات (المشروعة وغير المشروعة) حول من يتحدث باسم الإسلام؟ وحول ماذا يقول الإسلام أو ما لا يقول. كذلك بدّدت وثيقة مكة (من حيث طريقة إعدادها وهويات المشاركين فيها والموقّعين عليها، وكذلك من حيث مضمونها الفقهي المعاصر) علامات الاستفهام حول من يتحدث باسم الإسلام.. وحول ماذا يقول الإسلام. إن تبنّي منظمة التعاون الإسلامي للوثيقة يطوي رسمياً وعملياً صفحات التشكيك ويبدّد علامات الاستفهام التي ارتفعت أحياناً عن حسن نيّة، ليعلن – هذا التبنّي- رسمياً أن ما تقول به مكة هو القول الإسلامي الفصل.