شهد العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالخصوص عدة أحداث بين الثقافات، كشفت عن أزمة في العلاقات الدولية، أدت إلى التقليل من أسباب وشروط إقامة علاقات تتأسس على الاحترام المتبادل، لضمان العيش في أمن وسلام.
الأزمة وسعت الشرخ القائم بين الثقافات، فتصاعد خطاب الكراهية والعنصرية ضد المسلمين في وسائل الإعلام، وبالمقابل قوي خطاب الاحتجاج والتنديد في العواصم الإسلامية. والاختلاف بين الثقافات، ليس جديدًا، ولكنه لم يكن يمنع التواصل ولا الحوار، أما في العصر الحديث، فقد قوي التنافر في وقت ما بين الثقافات، فالبعض من المتشائمين، يرون أن «الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان» حسب المقالة المشهورة. ويرون أنه يستحيل تعايشهما في إطار علاقة حضارية إنسانية تتأسس على الاحترام المتبادل، لأن الغرب أبان عن عدائه من خلال غزواته واحتلاله لبلاد المسلمين، وأيضا من خلال زرع الكيان الصهيوني في البلاد الإسلامية ودعمه وحمايته، ما أدى إلى ظهور جماعات إسلامية مسلحة، لا تتورع عن اللجوء إلى العنف، لأجل لفت أنظار الغرب إلى ضرورة تغيير سياساته نحو الإسلام والمسلمين.
وفي الغرب أيضا، ظهر تيار شوفيني شعبوي معادٍ للمسلمين، يتهمهم بتقويض الحضارة الغربية، وضرب مصالح شعوبها. ولا يفتأ هذا التيار عن تأليب السياسيين والفاعلين الغربيين ضد الإسلام، وتخويفهم منه، ودعوتهم إلى الحزم في مواجهته، ومعاقبة الدول التي ينتمي إليها «الإرهابيون»، الأمر الذي يثير مزايدات كلامية واستفزازات إعلامية.
والمتطرفون من الجانبين؛ لا يتورعون عن استقطاب الأتباع، بالخطاب المضلل، والإغراء، والتخويف، واستغلال العاطفة الدينية والقومية، للزج بالجميع في صراعات دينية، وترسيخ فكرة الصراع الحضاري، بدل التعايش الحضاري، وكل طائفة ترغب في فرض آرائها ورفض كل رأي مخالف.
المبادرات الدولية
كانت رابطة العالم الإسلامي منذ تأسيسها داعية حوار، وجهت عناية خاصة لقضايا التعايش الإنساني الذي يتأسس على الحوار الحضاري وقيم التسامح وقبول الاختلاف.
وخلال السنوات الست الأخيرة، في ظل ولاية معالي الأمين العام الدكتور محمد العيسى كثفت الرابطة جهودها وأنشطتها لمواجهة المخاطر التي تعاظم شأنها، والتي تنذر بالصراع وتهدد السلم العالمي.
واصلت الرابطة ما قطعته من خطوات منذ تأسيسها، في مسيرة استتباب الأمن ومحاربة التطرف والتعصب، وأولت الانفتاح والتعايش أهمية خاصة، وصححت الفهم الخاطئ للإسلام والمسلمين، إيمانًا منها بأن ترسيخ التفاهم والتسامح والتعايش هو مسؤولية كل إنسان يقتسم الحياة على هذا الكوكب مع غيره.
وقد أطلقت الرابطة مبادرات دولية، تخدم غاياتها، في تحقيق السلم العالمي والحوار والتفاهم بين الشعوب، منها:
وثيقة مكة المكرمة: أصدرتها الرابطة يوم 30 مايو 2019، أثناء انعقاد المؤتمر الدولي حول قيم الوسطية والاعتدال الذي نظمته الرابطة في مكة. والغاية منها الدفاع عن الإسلام في مواجهة الأفكار المتطرفة، والأحكام النمطية الخاطئة؛ وتصحيح المغالطات التي ألصقت بالإسلام. وتنص «الوثيقة» على تأصيل قيم التعايش والحوار بين الأديان والثقافات والمذاهب المختلفة في العالم، وعلى مكافحة الإرهاب والظلم والقهر، والتصدي لكل أسباب الصراع والصدام المفضي إلى نشر وترسيخ الكراهية، واستنبات العداء بين الأمم والشعوب، ويحول دون تحقيق مطلب العيش المشترك في أمن وسلام.
مبادرة الصداقة والتعاون بين الأمم والشعوب.. من أجل عالمٍ أكثرَ تفاهماً وسلاماً، ومجتمعاتٍ أكثرَ وئاماً واندماجاً: تفعيلاً لمضامين «وثيقة مكة»، أطلقت الرابطة هذه المبادرة التي ترتكز على المبادئ والقيم الفاضلة المركوزة في جوهر النفس البشرية، والمشتركة بين الأديان والشعوب، وتتضمن برامج عملية مع شركاء الرابطة حول العالم من جميع أتباع الأديان والثقافات.
مبادرة تحصين الشباب ضد التطرف:
أطلقتها الرابطة خلال مؤتمر دولي نظمته الرابطة في مقر الأمم المتحدة بجنيف يوم 19 فبراير 2020م. وتتوسل الخطة لتحقيق غايتها، بالتربية الأسرية والمدرسية والدينية، للتوعية بمخاطر الفكر المتطرف، من خلال مناهج دراسية تفاعلية ترسخ تقدير الاختلاف والحوار والفكر النقدي، وتثمن التعدد الثقافي، لأجل بناء عالم محصن ضد المخاطر الفكرية، كما يعول على الإسهام الهام للخطاب الديني الذي يجب أن ينقى من كل ما يؤجج الصراع والكراهية، ويثير العداء والعنصرية.
حملة التصدي للإسلاموفوبيا:
أطلقتها الرابطة على مختلف المنصات؛ للمطالبة بحظر مروّجي الإسلاموفوبيا والمحتوى المسيء للإسلام. بدأها معالي الأمين العام برسالتين لإدارتَي تويتر وفيس بوك، وما تزال الحملة تحصد المزيد من الإقبال والدعم والتوقيعات منذ إطلاقها.
اتفاقيات عالمية للتعريف بالحضارة الإسلامية:
عقدت الرابطة اتفاقات مع مراكز علمية لإبراز جماليات فنون وثقافة الحضارة الإسلامية، وتتضمن تنفيذ مبادرات تعليمية وثقافية، والتعريف بالسيرة النبوية وجماليات الثقافة الإسلامية بطريقة صحيحة، وتعميق الصداقة والاندماج بين الأقليات الإسلامية ومجتمعاتها، وإبراز ثقافة الحوار والتواصل الحضاري في السيرة النبوية والحضارة الإسلامية.
المؤتمرات
أما المؤتمرات واللقاءات فهي كثيرة، تمحورت أعمالها حول قضايا على جانب كبير من الأهمية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قيم الأخوة الإنسانية؛ والتواصل الحضاري بين الشعوب؛ وبناء السلم العالمي.
الأخوة الإنسانية لإذابة الخلافات
كانت الدعوة إلى الأخوة الإنسانية حاضرة في أكثر المؤتمرات التي عقدتها الرابطة، أو شاركت فيها، حيث أكدت من خلال خطابات معالي الأمين العام أهمية الأخوة الإنسانية وقدرتها على إذابة الخلافات بين البشر.
وفي مؤتمر الأخوة الإنسانية لتعزيز الأمن والسلام بكرواتيا، زغرب 8 فبراير 2020م، أكد معاليه في كلمته أن التنوع الإنساني الذي يرتكز على الاحترام المتبادل يصبح «مصدر إثراء كبير وشامل، وقوة عالمنا في ذلك التنوع»، الذي يعزز قوة البلدان ويزيدها مناعة، وتحقيق ذلك رهين بتفعيل قيم المحبة والسماحة والتسامح. والالتفاف حول قيم الأُخوة الإنسانية التي تلغِيْ الحواجز السلبية وتردم فجواتها، وتُسهل الحوار والتفاهم والتعاون، فالإنسانيةُ تمتلك قيماً مشتركة تكفيها لإحلال السلام والوئام في عالم اليوم.
التواصل الحضاري لأجل الحوار
في مؤتمر التواصل الحضاري بين العالم الإسلامي وأمريكا بنيويورك يوم 17 سبتمبر 2017م، ذكر معالي الأمين العام في كلمته التوجيهية أن الاختلاف بين الناس سنة إلهية، فينبغي احترام حق الشعوب في الاختلاف، احترامًا للإرادة الإلهية، «ولا نكره غيرنا على رأينا» كما يجب توظيفه بحكمة ووعي، «لنصل للصواب الذي نريده في أي مجال كان»، «وإلا ستعيش البشرية في صراع دائم». مؤكدًا أن التعايش الحضاري الذي يتأسس على تفهم سنة الله في الاختلاف والتنوع، دون تمييز ديني ولا مذهبي ولا فكري، يخدم المصالح المتبادلة، والإنسانية جمعاء، ويرسخ السلم الاجتماعي والأمن لينعم به كل خلق الله.
وفي كلمته التي ألقاها معالي الأمين العام خلال حفل الافتتاح لمؤتمر التواصل الحضاري بأمريكا، أعلن للمشاركين أن رابطة العالم الإسلامي تحمل رسالة إنسانية عالمية، تدعو فيها للتواصل والتفاهم والتقارب، لخدمة المصالح المتبادلة وخدمة الإنسانية جمعاء، مذكرًا إياهم بأن التواصل الممتد عبر التاريخ بين العالمين الإسلامي والغربي والتبادل بينهما، دليل قوي على بطلان نظرية صراع الحضارات المبنية على إثارة نعرة الكراهية والعنصرية بين الشعوب، وقطع قنوات التواصل والحوار بينها.
بناء السلم العالمي
يحتل السلم العالمي مكانة محورية في برامج الرابطة، ومنذ تأسيسها، كرّست نفسها للعمل على تحقيق رسالة الإسلام، في نشر السلام والعدل، فأقامت المناشط والبرامج والمؤتمرات التي تدافع عن السلام والأمن، وتبني قنوات الحوار والتواصل بين الشعوب، وتعمل على تحقيق التعايش الإيجابي، والتركيز على القيم الإنسانية المشتركة، والتصدي لنظريات الصراع الحضاري. «فأحداث التاريخ التي شهدت بكوارث مفزعة للصراع يجب أن تكون داعية لنظرية تلاقٍ وتواصل وتعاون بل وتحالف الحضارات لا لصراعها»، كما قال معالي الأمين العام في مؤتمر التواصل الحضاري (17 سبتمبر 2017).
وخلال افتتاح مؤتمر رابطة العالم الإسلامي في غانا (1 يوليو 2019)، أكد معالي الدكتور العيسى، أن القيم المشتركة توجه الحياة لتسير في طريق سوي يسعد به الجميع في وئامهم وسلامهم، وفي رقيهم وتنميتهم. وأن السلام العالمي يتأسس حين تسود المحبة والتسامح، مبينًا أن الإسلام عنصر من العناصر المرسخة للسلم العالمي، من خلال تعاليمه التي تربط صحة إيمان الفرد بمحبة الخير للآخرين، مثلما يحب ذلك لنفسه، كما يأمر بالبر والإحسان إلى الآخرين، والعدل مع الجميع أيًا كانت أديانهم وأعراقهم. مؤكداً أن عالم اليوم أحوج ما يكون إلى تفعيل منطقة المشتركات الإنسانية التي يكفي بعضها لإحلال السلام والوئام المنشودِ حول العالم.
الأهداف على مستوى الأفراد
إذا كانت الأهداف العامة المتوخاة من خطط الرابطة وعملها هو إقرار السلم العالمي، وتأسيس العلاقات بين الشعوب على الحوار والتسامح والتعايش، فإن الرابطة قد خططت أيضا لبلوغ أهداف إجرائية دقيقة على مستوى الأفراد. وأهم هدفين تحرص عليهما الرابطة، هما: تحقيق المواطنة الدامجة، وتحصين الأفراد.
المواطنة الدامجة
تميز العصر الحديث بالحدود المفتوحة بين الدول للتبادل الاقتصادي والثقافي، فاستوطنت أعداد كبيرة من المسلمين بلدان الغرب الأوروبي وأمريكا، فتشكلت جاليات إسلامية، وانتقلت العلاقة بين الإسلام والغرب من التجاور إلى التداخل. وهذا الأمر ترتبت عنه نتائج مختلفة متضاربة أحيانًا، فإقامة الجاليات في الغرب، جلبت كثيرًا من المنافع للطرفين، إلا أن مؤشرات العنصرية والعزلة أخذت تظهر للملاحظين، وتهدد سلامة استقرار وأمن الجاليات.
لذلك دعا معالي الأمين العام في مؤتمر الأخوة الإنسانية في زغرب، إلى ضرورة تعزيز الجهود من الطرفين في سبيل إدماج الجاليات في البلدان الحاضنة، من طرف الحكومات التي يجب عليها فك كل أشكال العزلة عن الجاليات لإدماجها،
لقطع الطريق أمام كل الأطراف والتنظيمات التي تحاول استغلال عزلة الجاليات، ومن طرف الجاليات التي عليها احترام قوانين ودساتير الدول التي يستوطنونها، واحترام مؤسساتها التي تدير الشأن العام، لأن المطالبة باحترام الخصوصية الدينية للمسلمين يجب أن تتم وفق الضوابط والإجراءات القانونية، وتفادي الانجرار وراء الدعوات التي تفرض عليهم الارتباط بتنظيمات أو دول خارجية، تحاول التغلغل والتسرب من خلال عدة منافذ، أهمها تمويل الأنشطة الدينية واستيراد الفتوى والأفكار الدينية خارج ظرفيتها المكانية، فلكل بلد صيغتَهُ الدينية الاجتهادية التي تناسب ظرفيته الخاصة.
التحصين
تبذل الرابطة جهودًا كبيرةً لإيضاح حقيقة الإسلام ومحاربة الأفكار المتطرفة والإرهابية، وتتوجه نحو الجاليات الإسلامية في بلدان الغرب، لتعزيز وعيها الديني والفكري، لضمان فهمها السليم للدين، وتصحيح الافتراءات التي ألصقت بالإسلام، وحمايتها من كل من يحاول استغلاله لتحقيق أغراض سياسية، لا تخدم الإسلام ولا مصالح الجاليات، ولا الأمن والاستقرار العالمي. وتتواصل الرابطة مع الجميع؛ الجاليات وحكومات الدول الحاضنة لأجل الإسهام في نشر قيم الاعتدال والتسامح والسلام، وضمان حماية حقوق المسلمين التي تكفلها الدساتير والقوانين. وتدعو الرابطة إلى تعزيز دور الأسرة والجهات المسؤولة عن تربية النشء قصد «إيجاد البرامج الفعالة لتعزيز دور الأسرة في صياغة عقلية الأطفال وصغار الشباب صياغة سليمة، وإيجاد البرامج الفعالة، وبناء الشراكات المتعددة لدعم الوئام الديني والثقافي والإثني في دول التنوع».
كما أن الخطاب الديني عليه أن يوفر المعلومة الصحيحة عن الدين، لمحاربة الفهم الخاطئ أو التأويل السلبي المتعمد، حيث أكد معالي الأمين العام في مؤتمر زغرب أنه «من المهم ألا يقتصر قادة الأديان على مخاطبة الروح والعاطفة فحسب، بل عليهم أن يخاطبوا المنطق والواقع، ليُسهموا بفاعلية في سلام عالمهم ووئام مجتمعاتهم».
خلاصة
إن الرابطة تنظر إلى موضوع التعايش نظرة شمولية، وذكية، وتعي أن مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب، وموجات العنصرية والإسلاموفوبيا، تستدعي تبني مقاربة تعتمد على المسؤولية المشتركة بين الجميع، والمعرفة الحقيقية بالآخر، والاشتغال على المشترك الإنساني بين الثقافات، مع العناية بالتواصل الثقافي بين الشعوب، والتبادل المعرفي المؤسس على الحوار المتبادل بين الأمم، وهو شرط، وتصحيح المفهومات الخاطئة لدى المواطنين ومحاربة التطرف، وتمتين العلاقات الدولية وتقويتها، لترسيخ الأمن الذي يحقق التنمية والاستقرار والتقدم للبشرية جمعاء.
مجلة الرابطة - العدد 664