من أهم ما تذرع به الاستعمار الثقافي الحديث حماية الأقليات الدينية والعرقية، مطالباً بتغيير الهوية المجتمعية للأغلبية حفاظاً على مصلحة الأقلية، وقد عجز هؤلاء عن استيعاب الأقليات في مجتمعاتهم، وأصروا على سياسة التذويب وصولا إلى الوحدة الثقافية التي يتناغم فيها المواطنون كما زعموا تحت قيم الجمهورية أو التقدمية.
وهكذا فالمسلمون اليوم في دائرة النقد، وتتجه إليهم أصابع الاتهام، ويراد منهم أن يتساوقوا مع النظم والمواثيق التي تتناقض وخصوصياتهم الثقافية والدينية، وهم الأمة التي قادت ركب الحضارة الإنسانية سبعة قرون، وقدمت تجربة فريدة ثرية، العالم اليوم أحوج إليها، وحقيق بها أن تستعيد تجربتها، وتقدمها بثوب جديد.
وهنا يطرح سؤال: ما هو موقف الإسلام من التعددية الدينية داخل الدولة المسلمة؟
لم يشترط الإسلام للمواطنة الوحدة الدينية، ولا طالب الأقلية بالإنسلاخ من عقائدها، بل كان من أوائل وأهم الضمانات التي قدمها الإسلام لمواطنيه المخالفين في الدين أن أعطاهم حريتهم الكاملة في البقاء على أديانهم وممارسة شعائرها في معابدهم بأمن وسكينة، فلم يقبل مبدأ الإكراه الديني، لأن العقائد تكمن في الضمير، والإسلام يؤمن أنه لا سلطان لأحد على ضمائر الناس، لذا أعلنها صريحة ﴿لا إكراه في الدين﴾، وقصر أمر محاسبة البشر على اختياراتهم على الرب تبارك وتعالى: ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها﴾ (الكهف: 29).
فالرب تبارك وتعالى هو وحده من يتولى الجزاء والعقاب، وغاية ما يطلب من المسلم في هذا الشأن هو البلاغ عن الله والتعريف بالحق والدعوة إليه ﴿فإن تولوا فإنما عليك البلاغ﴾ (النحل: 82). وقال تعالى: ﴿فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد﴾ (آل عمران: 20). فالبلاغ هو منتهى ما يطلب من المؤمن الذي يدرك أن ما وهبه الله للإنسان من حرية الاختيار يجعل هداية الجميع من المحال، فأكثر الناس - كما أخبر الله - لا يؤمنون ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين﴾ (يوسف: 103).
وهكذا فالهداية إلى الحق وإدخال الناس في الإسلام ليست واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أحد من أتباعه ﴿ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء﴾ (البقرة: 272). لذلك فإن المسلم يتقبل بقاء الناس على أديانهم، ويفرحه هدايتهم، وفي كل ذلك يقول: ﴿وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير﴾ (الشورى: 15).
وإعمالاً لما تقدم من النصوص؛ لم يجبر المسلمون طوال تاريخهم أحداً على الدخول في الإسلام، بل تركوا للناس حرية الاختيار، قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة: «لم ينقل عن النبي ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام» (السير الكبير 10/103)، وضمنوا لهم سلامة دور عبادتهم، تأسياً بما كتبه النبي ﷺ لأهل نجران يقول ابن سعد: «أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته» (الطبقات الكبرى 1/266).
وقد التزم المسلمون هذا الهدي منذ الخلافة الراشدة، كما نجد في العهدة العمرية لأهل القدس: «هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، ألا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين» (تاريخ الطبري 4/449).
وقد كان لهذه السياسة الحكيمة أثرها في اختيار الناس للإسلام فإن: «ما جهله المؤرخون من حِلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم» (حضارة العرب، غوستاف لو بون، ص 605)، وفي المقابل فإنها أبقت المسلمين أقلية في بلاد فتحوها، وحكموها مئات السنين كما في حالة اليونان والهند وغيرهما.
ولم يتوقف الإسلام عند حالة القبول للآخر، بل انتقل إلى درجة أسمى لا نجدها في غالب المجتمعات التي أتعبنا سماع صراخها وهي تطال بالحرية الدينية، بينما لا يستطيع المسلمون فيها حل خلافاتهم الأسرية وتوزيع مواريثهم بحسب شريعتهم الدينية، ولربما قبض على مسلم لأنه تزوج بزوجتين، ولم يطلق سراحه إلا بقوله عن إحداهن: إنها عشيقته!
نعم، المسلمون سبقوا إلى خصلة فريدة جميلة، حين أوجبوا في قوانينهم رعاية الخصوصيات الدينية لمواطنيهم، فلا يجوز منعهم من ممارسة شعائرهم ولا تعطيلهم عنها، وقرر الفقهاء إعمالاً لحديث صحيح يرويه الترمذي والنسائي وأحمد: «وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت»، فبنى عليه العلماء قولهم: «يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة»، ونصوا على أنه «ليس للقاضي إحضاره يوم السبت لبقاء تحريمه عليه» (غاية المنتهى وشرحه 2/604).
ولأن الشريعة أخص خصائص الدين فإن المسلمين لم يلزموا مواطنيهم بتفاصيل الشريعة الإسلامية، واكتفوا من ذلك بما يتعلق بالسياسات العامة للدولة، تاركين تفاصيل الحياة الاجتماعية والدينية إلى رجال الدين من كل ملة.
يقول الإمام التابعي الزهري (ت 741م): «مضت السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم بينهم بكتاب الله تعالى» (عمدة القاري (16/161)، والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿فإن جآؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين﴾ (المائدة: 42).
ونقل العيني عن تلميذ مالك ابن القاسم العتقي (ت 806م) فقيه مصر قوله: «إن تحاكم أهل الذمة إلى حاكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من أساقفهما، فإن كره ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهما» (عمدة القاري 16/161).
وكان بداية ظهور النظم الخاصة بأهل الذمة في مرحلة مبكرة حيث رغب رعايا المسلمين ومواطنوهم في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، وأن تكون مواريثهم حسب ما قررته الشريعة الإسلامية، متذرعين بنقصان تشريعاتهم الدينية وعدم شموليتها وعجزها عن تحقيق المطالب الحياتية للمؤمنين بها، وهذا ما حدا بالجاثليق النسطوري تيموثاوس في حوالي سنة (200هـ، 800م) إلى تأليف كتاب عن الأحكام القضائية المسيحية، وفرض على من يتحاكم إلى محاكم المسلمين طائعاً أن يتوب ويتصدق ويقوم على المسح والرماد (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1/93).
ومن ضمانات الخصوصية الدينية عدم إلزام غير المسلمين بتفاصيل الشريعة السائدة في المجتمع المسلم، فالإمام مالك (ت 795م) يقول: «إذا زنى أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويُدخلوا عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين» (التمهيد (14/392)، وانظر: أحكام أهل الذمة (1/317)، والمحلى (9/118))، وأما إذا أُمن هذا الضرر فإن الإمام أبا جعفر الطحاوي (ت 933م) ينقل إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم: «وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام»(اختلاف الفقهاء، ص 233).
وقال الإمام الشافعي (ت 820م): «وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين، لم يمنعهم إحداث كنيسةٍ، ولا يَعرض لهم في خنازيرهم وخمرهم وأعيادهم وجماعتهم» (الأم، الشافعي 4/ 218)، ووافقه فقيه الأندلس أبو الوليد الباجي المالكي (ت 1082م): «إن أهل الذمة يقرون على دينهم، ويكونون من دينهم على ما كانوا عليه، لا يمنعون من شيءٍ منه في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من إظهاره في المحافل والأسواق» (المنتقى شرح موطأ مالك 2/178).
وهذه التقريرات الفقهية لم تكن صرخة في الهواء، ولا مجرد حبر على ورق، بل ترجمها واقع المجتمع المسلم إلى ممارسات يومية، وتناقلها المؤرخون بإعجاب، يقول آدم متز: «ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به» (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز 1/93).
ويقول أيضاً: «أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل» (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز 1/95).
ويؤكده المستشرق هنري كاستري: «ولا يكره على الإسلام، ويخضع لقوانين النظام والأمن العام، ويرجع إلى دينه في الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق وميراث، إلا إذا اشترك معه مسلم، فيرجع إلى الدين الإسلامي» (الإسلام خواطر وسوانح، هنري كاستري، ص ۷۳).
ويسجل الكاتب الإنجليزي المتخصص في الثقافة الإسلامية روم لاندو في شهادته أن النصارى في بلاد المسلمين «تمتعوا باستقلال کامل يتجلى في احتفاظهم بكنائسهم الخاصة، وقوانينهم الخاصة، ودور قضائهم الخاصة، وقضاتهم وأساقفتهم وكونتاتهم (نبلائهم) المخصوصين» (الإسلام والعرب، روم لاندو، ص 172).
وأما الدكتور فيليب حتِّى فيقول: «وكانوا يرجعون في قضاياهم المدنية والجزائية إلى رؤسائهم الروحيين؛ إلا إذا كانت القضية تمس مسلماً.. والواقع أن شيئاً من هذا النظام ظل معمولا به حتى آخر العهد العثماني وفي زمن الانتداب في سورية وفلسطين» (تاريخ العرب، فيليب حتي، ص 104).
وهكذا فقد استمر العمل بهذا حتى عهود الدولة العثمانية وما تلاها من دول قطرية، فالعثمانيون أنشؤوا نظام «الملة» الذي «أتاح للبطاركة على مختلف مشاربهم سلطات تشريعية واسعة في الجوانب الدينية، والتعليمية، والاجتماعية، بما في ذلك القضايا المتعلقة بالزواج، والإرث، والأوقاف، والإحصاء السكاني، وهي الصلاحيات نفسها التي منحها سلاطين العثمانيون لشيخ الإسلام في الإمبراطورية العثمانية على الرعایا المسلمين» (تاريخ المسيحية الشرقية، عزيز سوريال، ص 417(.
بل يذكر السير توماس أرنولد أن رئيس الكنيسة اليونانية «كان متمتعاً أيضاً بسلطة أهلية واسعة، فكان من عمل البطركية أن يفصل في القضايا التي تتعلق بالإغريق بعضهم مع بعض: فكان لها أن تفرض الغرامات، وتسجن المجرمين في سجن معد لها، بل كان لها أن تحكم بالإعدام في بعض الأحيان» (الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص ۱۷۱).
وهذه المعاملة لم تكن خاصة بالنصارى، بل كانت سياسة متبعة مع المكونات الدينية المختلفة، ونقتبس هنا شهادة الربَّاي بتاحيا الراتسبوني (ت1180م) في رحلته لتفقد أحوال اليهود في المشرق: «إن رؤساء اليهود في الموصل كانوا هم الذين يعاقبون مرؤوسيهم، حتى ولو كان أحد طرفي الخصومة مسلماً ؛ وكان بالموصل سجن يسجن فيه اليهود » (الحضارة الإسلامية، آدم متز ۱/ 95).